بسم الله وبه نستعين

توطأة

إلى عشّاق العلم والمعرفة، الذين لا يزيدهم ورودُ ينابيع العلم ومناهل المعرفة إلاّ ظمأ، ولا تزدادُ حرارة النهم الملتهب في صدورهم، مع كل كتاب وباب وفصل، إلاّ اتقادا، من يرون أنّ التّعلّم منهاج حياة، فهُمْ مع الكتاب حتى يواريهم التراب. أولئك القوم كمسافر ضارب في الأرض، شُقَّته بعيدة، بل لا مستقرّ لها، تتعاوره الفيافي الموحشة والوِهاد العوالي والنِّجاد الغوامض والحدائق الغنّاء والرّياض المُؤنسة. يطوي المراحل ويقطع الفلوات بين شدّ وخبب ودبيب، تتهاداه أراضٍ، منها المنبسطةُ الليّنةُ السهلةُ المسير، ومنها الصلبةُ الوعْرةُ التّي تُجهد السالك فيها، ومنها ذات منارات وأعلام تهدي السالكين، ومنها يهماءُ لا عَلَمَ ولا منارة فيها يُهتدى بها. وبدون أهبة وزاد ومعرفةٍ بالأرض يوشك أن ينقطع الطريق بالمسافر أو يضلَّ الجادّة، والموفّق من هداه الله وأعانه.

سأسعى من خلال هذا العمل، أن أنعت لكم سبيلا هداني الله إليها، تختصر عليكم المفاوز وتهوّن عليكم مشقّة السير، تجزعُ بكم التنائف وترقى الجبال وتقطع الأودية وتخوض البحار، في رحلة التعلّم الطويلة، وأدلَّكم على زاد تحملونه معكم، هو أخفّ وزنا وأطيب مذاقا وأحسن غذاءا -إن شاء الله-.

ليست هذه السلسلة نقلا لتجربتي الذاتيّة في ميدان التعلّم فلست من فرسانه ولم أطاعن فيه ما طاعن غيري من أهل العلم والفضل، ولكنّي ناقل لما أدّى إليه النّظر والتفكّر في آية من آيات الله، ألا وهي الإنسان، كما قال الحقّ -تبارك وتعالى- (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). ومع أنّ في تراثنا، معشر المسلمين، في هذا الباب ما تقرّ به الأعين، فلا زال بين أيدينا الكثير من الخفايا والأسرار المتعلّقة بالعقل وعمله وقدراته في مجال التعلّم في انتظار أن تُكتشف. وقد سَبَقَنا بنو الأصفر في هذا الميدان -كغيره من الميادين- بتطبيق المنهج التجريبيّ واستخلصوا نتائج قيّمة وحكما نافعة. غير أنّ الآخذ منّا بتلك النتائج والحكم قليلٌ، لذلك أسعى هنا أن أدني لكم ثمارها حتى يتسنى لكم قطافها والتلذّذ بها. وسأكشف لكم زيف بعض المسلّمات الرائجة في ميدان التعلّم وألفتُ انتباهكم إلى مكامن الخطأ والقصور في كثير من طرائقه ووسائله.

سأتحرى تبسيطَ مواضيعِ غرضِنا ومسائلِه، وصياغتها بعبارةٍ سهلةٍ مبسّطةٍ، متنكِّبا ذكر التفاصيل العلميّة والبحثيّة والفنيّة، إلاّ ما يخدم غرضنا ولا يحيد بنا عن المقصود. ولكن لا يسعني إلاّ أن أرفُد كلامي بالإحالة على أصوله التي أُخذ منها، وإلاّ ما الذي يجعلك تطمئن لقولي وتركن لنصحي وتعطيه قدرا من اهتمامك ووقتك الثمين؟! ثمّ سأحرص على أن أشفع الشقَّ النظري بشقّ عمليّ عظيم الفائدة والنّفع، فلا بدّ من حشد القوّات والمعدّات اللازمة لوضع الخطّة حيّز التنفيذ، وإلاّ بقيت حبرا على ورق.

ربمّا غلب في حديثي الكلامُ عن العلوم الشرعيّة وضربُ المثال بها، فيظنَّ الظانُّ أنّ السلسة تخصّ طلبة العلوم الشرعيّة دون غيرهم، فينسلّ أهل العلوم الماديّة والطبيعيّة، وتلاميذ المدارس والمعاهد وطلاّب الجامعات عبر أزرار الانتقال والروابط إلى شاشات أخرى. فليلتمسوا ليَ العذر فالرجل ابن بيئته، فإذا كنتُ من تلك الزاوية أنظر، فالمشهد أكبر من ذلك. سيجدُ عشّاق العلوم والمعارف على تنوّعها، في هذه السلسلة، ما يفرحهم ويثلج صدورهم -بإذن الله تعالى-.

هذا، وما كان من حقّ في ما قلت وسأقول فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ أو زلل فمن نفسي ومن الشيطان، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.



كتبه أبو حامد القطّان

في ذي القعدة من سنة 1441 للهجرة

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة