تلذّذْ مراراةَ التعلّم : لا سبيل إلى ضبط العلم وإتقانه إلاّ بمكابدة المشاقّ والصّعاب

نظريا ليس لسَعة الذاكرةِ طويلةِ المدى حدّ، بل كلما ازددت علما كلما أمكنك صنع روابطَ جديدة في الذاكرة لتقييد العلم الجديد. قال الزهري : "إنّ الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب ثم لا يلبث أن يصير واديا ولا يوضع فيه شيء إلا التهمه". وقال غيره : "ما رأيت شيئا إلا وقليله أخف من كثيره إلا العلم فإنه كلما ثقل خف حمله". في المقابل، قدرتنا على استدعاء طائفة من العلم وقت الحاجة، من المخزون الضّخم طويلِ المدى، محدودةٌ نسبيا. فحفظ العلم أمر، واستدعاؤه وقت الحاجة أمر آخر. فلعلّك تستظهر القرآن كلّه أو ما شاء الله لك أن تستظهر منه، ولكن لو سئلت أن تستدعي كلّ آية تحفظها في "نعيم الجنة" مثلا أو "صفة المنافقين"، ربما لم يحضرك من ذلك إلا الشيء اليسير. يمكن أن نسمّي هذه الظاهرة تأسيا بالشيخ سليمان عبودي "المعرفة الكامنة"(1). شدُّ وَثاق الشارد من المعرفة يُحكمه أمران :

- كثرة استدعاء المعرفة

-وكميّة ونوعيّة الإشارات والإلماعات التي تربطها بشبكة المعرفة السابقة عندنا. فالعقل يستعصي عليه العلم السابح في الفضاء، فلا تكاد تطاله يدّ الاستحضار. لكن كلّما كثرت علائق المعرفة بمعارف أخرى وتشعبت، كلّما تقاربت وسهل استدعاؤها عند الحاجة. من مارس العلم لا بدّ خَبِر، بقدر قلَّ أو كثرَ، أثر الربط على رسوخ العلم والمعرفة. فحين ترتبط المسألة النحوية عندك بآية أو حديث ستكون أرسخ منها لو كانت مجردة عن ذلك. وإذا ارتبط الحكم على الراوي بخبر أو مجموعة أخبار يرويها فرسوخ الحكم أرجى منه لو كنت تعرف الحكم مجردا، وقس على ذلك.

استخراج العلم والمباعدة والتداخل أعمال شاقّة عقليا ونفسيا. هذه المشقّة هي التي تعزّز رسوخ المعرفة على المدى الطويل، وتقوّي ملكة استدعائها وقت الحاجة. من النتائج البحثيّة التي تثبت هذه القاعدة ما يلي :

- وجدوا أنه متى تمّ حذف حروف من الكلمات في النص، ما يتطلب من القارئ تكميلها، تحسّن مستوى حفظ القارئ لها.

- عندما يعرض الأستاذ المحاضر المادة بترتيب مختلف عن ترتيب الكتاب المدرسيّ، فإن الجهد المبذول لتمييز الأفكار الرئيسية والتوفيق بين المادة المبعثرة ينتج عنه ضبط أفضل للمحتوى.

- عندما يكون النص في الصفحة أقلّ وضوحا أو مكتوبا بخطّ تصعب قراءته، يتذكر القارئ المحتوى بشكل أفضل.

ومن أمرّ ما يتجرّعه المتعلّم في وصال العلم : الخطأ. تثبت نتائج الأبحاث أن صعوبة المادّة تخلق مشاعر انعدام الكفاءة، التّي تولّد بدورها القلق، والذي يعطّل بدوره التعلّم. في أثناء العمليّة التعليميّة لا مناص من الخطأ، بل الخطأ أحيانا يكون أنفع من الصواب. لكنّ أكثرنا يحاول جاهدا أن يجتنب الخطأ بسبب أثره النفسيّ المحبط، ومن مظاهر ذلك أنّك تجتنب مذاكرة العلوم الأصعب عندك ما استطعت، وربما أجلّتها حتى يضيق الوقت عنها. لا تدع هذا الشعور يغلب عليك ويقطع عليك طريق التعلّم. تقبّلِ الخطأ بل تلذّذهُ، إذ هو سبيلك إلى الضبط والإتقان.

ومَنْ لَمْ يَذْقْ مُرّ الَتَعلُّمِ سَاعَةً .:. تَجَرّعَ ذُلّ الجَهْلِ طُولَ حَياتِهِ


(1) راجع فصل "المعرفة الكامنة" من كتاب المرقاة للشيخ سليمان العبودي فقد أبدع فيه، وكثير مما ذكره في هذا الفصل هو مقتضى ما توصلت إليه التجارب والأبحاث العلميّة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة