هَذًّا كهذّ الشَّعْر ونثْرا كنثْر الدَّقَل


لعلّ الطريقة الأكثر شيوعا لفهم وضبط ما نتعلّم من الكتب أو المعلّمين والشيوخ هو : التّكرار. ولست أعني هنا التكرار من أجل الاستظهار، وهو الذي نسمّيه "حفظا"، ولكن أعني التكرار من أجل الفهم والضبط. ينبئنا حدسُنا وذوقُنا أنه كلما كرّرنا الدرس أكثر أضحينا أضبط وأوعى لمسائله، وربما تلقّينا نصائح متواترة من جهات موثوقة عندنا باعتماد هذا الأسلوب. وهكذا ننفق الساعات الطوال في القراءة مرارا وتكرارا حتى يراودنا شعور بالرضا عن فهمنا وإتقاننا لطائفة العلم المعنيّة. غير أنّ هذا الشعورَ غالبا، شعورٌ زائف مُضلِّل لا يعكس الحقيقة. تثبت الأبحاث والتجارب أنّ هذا النوع من القراءة، ويسمّى القراءة السلبيّة، لا يبني الحفظ المتين طويل الأجل، ويعطي شعورا زائفا بالفهم والإتقان، بل لا تعدو فائدته "إرهاقَ العينين وعظامِ الرقبة”(1). وأنا أسمّيها #قراءة_الهذّ، لأنّها أقرب ما تكون لقراءة الرجل الذي قال له عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- "هذّا كهذّ الشعر"، حين أخبره أنّه يقرأ المفصّل في ركعة.

قدرتك على الإتيان بألفاظ الكتاب أو الشيخ لا يعني أنّك فهمت فحوى الكلام وضبطت معناه. ولكن عادة ما تخدعنا عقولنا، أو نخدعها، فنمرّ على المسألة التي قرأناها مرارا -والتي لا نفهمها في الواقع-، ونشعر أنّه لا حاجة للوقوف عندها لأنّه لا حاجة أن نتعلّم ما لا نعلم!!! ثمّ إذا سُئلنا عن تلك المسألة أو اختُبرنا فيها ظهرَ عجزُنا وافتُضح جهلنا ورُحنا نجمجم ونتلعثم، كأنّ ما ظنّناه مقيّدا بزمام وثيق قد فكّ قيده وغاب في الأفق البعيد وحالت بيننا وبينه طبقة كثيفة من ضباب الجهل.

في تجربة أجراها علماء جامعة واشنطن، قرأ مجموعة من الطلاّب مادة دراسية وأعادوا قراءتها على الفور، بينما قرأت مجموعة ثانية من الطلاب المادّة مرة واحدة فقط. اختُبرت المجموعتان اختبارًا فوريًا بعد القراءة، وكان أداء المجموعة التي قرأت مرتين أفضل قليلاً من المجموعة التي قرأت مرة واحدة. لكن في اختبار متأخر، تلاشت فائدة القراءة الفورية، وكان أداء المجموعة الأولى على نفس مستوى المجموعة الثانية التي قرأت المادة مرّة واحدة. (2)

من عيوب قراءة الهذّ "تسطيح" المادّة العلميّة، أي جعل الدرس كلّه في مستوى واحد عند الطالب من ناحية الفهم والضبط، وهو ما يخالف الواقع في أغلب الأحيان. فإنّك ربما قرأت الدّرس فضبطتَ بعض مسائله من القراءة الأولى، وبقي بعضها عصيّا على الفهم حتى بعد القراءة العاشرة، وبين هذا وذاك درجات ودركات. وهكذا يغدو الدرس الواحد كأرض فيها وهاد ونجاد وأودية وجبال وقفار ورياض. فإذا راجعت الدرس جملة واحدة بطريقة القراءة السلبيّة، أنزلت شعبه المختلفة -من جهة الفهم- منزلة واحدة، ولا يمكن تفادي ذلك إلاّ بتجزئة الدّرس إلى أصغر وحدة ممكنة، وهو ما سنبيّن كيفَه في الجانب العمليّ من السلسلة -إن شاء الله تعالى-.

فالكيّس من أنزل كل مسألة من العلم منزلتها، وخصّها بمعاملة تليق بها، فإنّه يوفّر بذلك على نفسه وقتا وجهدا ثمينَين. والأمر ذاته يصدُقُ على الحفظ وسنعرض لذلك في موضعه بإذن الله.

ومن الاستراتيجيّات التعليمّية الشائعة : التسطير والتظليل (وضع سطر تحت الكلمات المفاتيح والعبارات الجامعة أو تظليلها بلون مغاير)، وهذه الاستراتيجيات لا تفوق التكرار كفاءة، ولا تُخرجُ مستعمِلها عن المنهج السلبيّ في التعلّم.

هل يعني ذلك أنّ التكرار استراتيجية تعليميّة فاشلة مطلقا؟ الجواب : حتما لا، فحديثنا منصبّ على التكرار السلبيّ، وستفهم الفرق بينه وبين التكرار الإيجابيّ، الضروريّ للضبط والإتقان، قريبا إن شاء الله.


(1) العبارة من السفر النافع الماتع "المرقاة" للشيخ سليمان العبودي -حفظه الله ونفع به-.

(2) مترجم من كتاب “Make it stick” من تأليف ثلاثة باحثين غربيين، وهو أحد أهمّ المراجع التي استفدت منها في إعداد هذه السلسلة، غير أنّه لم يترجم إلى العربيّة بعدُ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة