#الحفظ_الجائر : الحافظ الشنقيطيّ الخارق


قبل أن أحبّر هذه الشاشة بأفكاري المستفزّة، فإنّي أُشهدكم على حبّي لعلماء شنقيط وطلاّب محاظرها، وفخري أن يكون في أمّتي أمثالهم من مصابيح العلم ونجوم الهدى. فلعلّ أحدهم يمرّ من هنا فيجد عليّ في نفسه، ويقول من أنت حتى تتكلّم في أسيادك. فله أقول : يا سيدي ألا تقرأ سورة النمل؟!

لو نظرنا في طرائق تعليم العلم الشرعيّ قديما وحديثا، لوجدنا أنّ من أكثرها شيوعا وقَبولا طريقة (متن-شرح)، أي حفظ المتن ودراسة شرحه. قد نجد تفاوتا بين بلد وآخر، أو منطقة وأخرى، أو شيخ وآخر، أو زمن وآخر في درجة الاعتماد على هذا الأسلوب، ولكنّه يبقى من أوسع طرائق التعليم انتشارا بين طلبة العلم الشريف. وقد حاز الشناقطة قصَب السبق في هذا المضمار، لا يكاد ينافسهم فيه منافس. طالب المحظرة الشنقيطي ربما يكرّر البيت ألف مرّة ليحفظه. لو فرضنا أنّ البيت يأخذ منه 3 ثوان ليقرأه (بلغة الطلاسم التي يتقنها الحفّاظ)، يعني هذا أنّه يحتاج 3000 ثانية ليحفظ بيتا واحدا، وهو ما يعادل 50 دقيقة للبيت الواحد. وعليه فحفظ ألفية من ألفيّات العلوم ستستهلك من وقته 50 ألف دقيقة، ما يعادل 833 ساعة!!! لا يتناطح عنزان أنّ هذا الطالب سيكون ضابطا للألفية كضبطه لاسمه -تقريبا-، ولكن في مسيرته العلميّة كمْ هي الأبيات، من جملة هذا المحفوظ، التي سيحتاجها الطالب ليستشهدَ بها أو يستذكرَ ما نسيه أو يرجعَ إليها أثناء التفكّر والتأمّل والبحث؟ الإجابة تحتاج إحصاءا علميا رصينا، يُستفتى فيه حفّاظ المتون، لنستخرج نسبا واقعيّة (ها قد ألقيت بها بين أظهركم)، ولكن لن أكون مبالغا إذا قلت أنّ النسبة لن تتجاوز 50%، بل ربما تنزل إلى 20% أو 10% في بعض العلوم. لنبني على فرضيّة 50%، هذا يعني أنّ 415 ساعة من وقت حبيبنا الحافظ الشنقيطي الخارق راحت هدرا، وهذا في ألفيّة واحدة، فكيف إذا كان يحفظ 10 ألفيات، هذا يعني 4150 ساعة، فإذا كان هذا الطالب يدرس بمعدل 10 ساعات يوميا، فيكون أهدر من عمره سنة وشهرين تقريبا!!! أما إذا نزلنا بالنّسبة إلى 20% فيكون أهدر 666 ساعة في الألفية الواحدة، أي سنة و10 أشهر من سنوات الطلب العزيزة في 10 ألفيّات!!!

الآن ينبغي أن تلحّ عليك أسئلة مزعجة : ولكن أين تذهب هذه الأوقات؟! أترمي إلى أن الحافظ الشنقيطي لم يستفد من بقيّةِ الأبيات؟! فلماذا حفظها في المقام الأول؟!

لو كانت خطّة الحافظِ الشنقيطيِّ، ومثلُه الكثيرُ من طلبة العلوم والمعارف، منطقيّةً ما كان لما أكتبه أيّ داعٍ! أنا أريد أن ألفت انتباهك إلى المتناقضات وأحرضكَ على مُسائلةِ المسلّمات.

أمّا الجواب عن سؤال "فلماذا حفظها إذا؟!” فهو ما ذكرتُ في فصل "دعامتا العلم والمعرفة" من الأسباب التي تجعلنا نجنح إلى الحفظ المجرّد، ولعلّ السبب الأخير منها، وهو التقليد والمجاراة، هو الأقوى في حالة الحافظ الشنقيطي.

أمّا سؤال "أترمي إلى أنّ الحافظ الشنقيطي لم يستفد من بقية الأبيات؟!” فجوابه : أنّ الحافظ الشنقيطي ربما استفاد بها في مرحلة الدّرس، حين كان يعرض على الشيخ محفوظه ليَشرحَه له، أو يقرأُ الشرح من كتاب، ثمّ إنّه بعد زمن من المراجعة والمذاكرة والمناظرة قيَّد أوابدَ ما تعلّمه من تلك الأبيات، فما عاد يحتاج أن يسترجع الأبيات إذا عَرَضَتْ له مسألة منها. فلو سألته عن أنواع المياه، أو أحكام "كان" وأخواتها، أو أنواع العلّة المؤثرة في الحديث، لأجابك دون تلعثم ودون الحاجة إلى استدعاء محفوظه. لماذا؟ ببساطة لأنّه وعاها وضبطها. قد يعترض معترض بأنّه لم يكن ليعيها لولا حفظه للأبيات المتعلّقة بها؟ فأقول : قد يكون حفظه عاملا مساعدا ولكن في الغالب ليس هو العاملَ الأهمّ، وكان في مقدوره أن يظفر بنفس الدّرجة من الضّبط دون أن يحفظ الأبيات.

أغلب المتعلّمين الذين يميلون إلى الحفظ، يمارسون #الحفظ_الجائر بدرجات متفاوتة، ويُغبَنُون في أوقاتهم أيّما غُبْن. ولعلّ من يقرأ هذه السّطور من حفّاظ المتون يستفتي نفسه، ليعرف نسبة الاحتياطي الفاعل من محفوظه وما تمّ تسريحه من الخدمة قبل سنّ التقاعد، بعد أن كلّف تأهيله ثمنا باهضا.

الحفظ عمل مُجهد ومستنزف للوقت، فلا ينبغي أن يلجأ إليه إلاّ عند الحاجة وينبغي أن تقدّر الحاجة بقدرها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة