(وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)


إذا كان التوازن بين الحفظ والفهم هو مفتاح المعادلة الصعبة، فكيف نظفر عمليا بذلك التوازن؟

أولا ينبغي أن نقرّر قاعدة جليلة هي : الفهم مقدّم على الحفظ منزلةً ووقتًا، هذا أصل جامع ينبغي أن لا نحيد عنه. إنمّا الحفظ خادم للفهم، ووراء الفهمِ غايات شتى، ولا ينبغي أن نحفظَ لمجرّد الحفظ. حتّى في القرآن المتعبَّدِ بتلاوته، أعظمُ المقاصد من تلاوته وسماعه، تدبّرُه والعملُ به، والحفظُ وسيلة لذلك. اسمع إلى ما يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- : "لقد عِشنا بُرْهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلَّم حلالَها وحرامَها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فيَنْثُره نثْرَ الدَّقَل”.

وممن ذكر هذه القاعدة برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله- في كتابه القيّم "تعليمُ المتعلِّم طريقَ التعلُّمِ" فقال : "ولا يكتب المتعلّمُ شيئاً لا يفهمه، فإنه يورث كلالةَ الطّبع ويُذهبُ الفطنة ويضيّع أوقاته … قيل: حفظ حرفيْن، خير من سماع وقرين، وفهم حرفين خير من حفظ سطرين.”اهـ. وعليه فالتسلسل المنطقيّ هو أن تبدأ بفهم مادّة العلم، ثمّ تلجأ إلى الحفظ لصيانة ما فهمته من غائلة النسيان. ولهذه القاعدة شواذ وشوارد، ربمّا نأتي عليها أو على بعضها في المقام اللائق بها.

غير أنّ المعمول به عند كثير من المعلّمين والمتعلّمين هي إحدى خطّتين : الخطّة المعكوسة، أو خطّة التوازي. فالخطّة المعكوسة هي تقديم الحفظ على الفهم، كمن يحفظ المتن قبل أن يقرأ أو يسمع شرحه. وخطّة التوازي هي الفهم والحفظ في آن واحد، ومِثَالُه أن تجعل المتن أجزاءا، فتقرأَ أو تسمعَ شرحَ جزء ثمّ تحفظَه، ثمّ تنتقلَ إلى الجزء الذي يليه، وهكذا دواليك.

ومع أنّ خطّة التوازي أحسن وأنجع من الخطّة المعكوسة، ولكنْ كلاهما قد يفضي إلى إسراف في الحفظ أو ما أسمّيه #الحفظ_الجائر. وحتّى لا أثقل عليكم بالكلام النظريّ المجرد فلأضرب لكم مثالا من علم النحو، ففي باب الإعراب من نظم العمريطي -رحمه الله- على المقدمّة الآجرُّومِيَّة، يسبك النّاظم علم هذا الباب في 5 شذرات فيقول :

إِعْرَابُهُمْ تَغْييرُ آخِرِ الْكَلِمْ...........تَقْدِيراً أو لَفْظاً لِعَامِلٍ عُلِمْ

أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ فَلْتُعْتَبَرْ...............رَفْعٌ وَنَصْبٌ وَكَذَا جَزْمٌ وَجرْ

وَالكُلُّ غَيْر الجَزمِ فِي الأَسمَا يَقَعْ.....وَكُلُّهَا فِي الْفِعْلِ وَالْخَفْضُ امْتَنَعْ

وَسَائِرُ الأَسْمَاءِ حَيْثُ لاَ شَبَهْ........قَرَّبَهَا مِنَ الحُرُوْفِ مُعْرَبَهْ

وَغَيْرُ ذِي الأَسْمَاء مَبْنِيُّ خَلاَ.........مُضَارِعٍ مِنْ كُلِّ نُونٍ قَدْ خَلاَ

لا شكّ أنّها أبيات رائقة لناظم بارع -رحمه الله وغفر له-. لكن من تعلّم النحو، ومارسه ولو شيئا يسيرا، تراه ضابطا أشدّ الضبط للعلم المبثوث في هذا الباب، دون الحاجة إلا استدعاء الأبيات، بل لا يكاد محتوى هذا الباب يحتاج إلى تفكير (قد يستثنى من هذا حدّ الإعراب في البيت الأوّل) . فلو سألت المبتدئ في علم النحو :

- ما أنواع الإعراب؟ لأجابك دون تلعثم : رفع وجرّ ونصب وجزم

- ما أنواع الإعراب التي تعتري الاسم؟ لأجاب قبل أن تُتِمَّ السؤال : كلّها إلا الجزم

- ما أنواع الإعراب التي تعتري الفعل؟ كلّها إلاّ الخفض

- ما الأصل في الأسماء من حيث الإعراب والبناء؟ الإعراب إلاّ ما أشبه منها الحرف

- ما الأصل في الأفعال من حيث الإعراب والبناء؟ البناء إلاّ ما أشبه منها الاسم

إذا كان هذا المستوى من الضبط في حقّ المبتدئ من طلبة النحو، فهل تتصوّرون أنّ الطالب المتقدّم أو العالم سيحتاج إلى استدعاء محفوظه في هذا الباب من العلم سواء كان من نظم العمريطي أو الألفيّة أو غيرها؟! عمليّا لن يحتاج الطالب في مسيرته العلميّة إلى استدعاء شيء من هذا الباب، إلاّ البيت الأوّل ربما، وقس عليها أمثالها في كل علم وفي كل باب، فيهدر الطالب من وقته الكثير في ما لا طائل تحته. لا يمكن تفادي هذا #الحفظ_الجائر إلاّ بتطبيق قاعدة : الفهم مقدّم على الحفظ منزلةً ووقتًا.

فكلا الخطتين : المعكوسة وخطّة التوازي، وهما الأكثر شيوعا بين طلبة العلم الشرعي خصوصا، لا تراعى فيهما هذه القاعدة حقّ المراعاة. قد لا تدركون حجم الخسائر إلاّ إذا تكلمنا بلغة الأرقام، لأنّي أعرف أنّ كثيرين لن يقتنعوا حتّى تلجمهم حجج لا قبل لهم بدفعها، لأن الإلف والعادة تحجب عنهم الصورة الحقيقيّة.

سأتناول هذا الموضوع بتفصيل أكثر في الفصول القادمة -إن شاء الله-، خاصّة تلك التي تتحدّث عن الحافظ الشنقيطيّ الخارق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة