الاقتصاد في الحفظ : خطّة الحفظ المسطّحة وخطّة الحفظ المفصّلة



ينبغي أن يكون الحفظ بقدر الحاجة ومفصلا على مقاسك الخاصّ، فتبايننا العجيب في أصل خلقتنا وما جبلنا عليه واستعداداتنا وملكاتنا وما شكّل شخصياتنا يقتضي أنّ نتباين أيضا في مستويات شتى، منها هذا الباب. غير أنّ أكثر النّاس يميل إلى "تسطيح" الإنسان من خلال تجاهل هذه الفوارق، وحمل الجميع على خطّة موحدة.

إذا قصدنا إلى فهم باب من العلم أولا، مستعينين بـ(سَمَتْ) أو غيرها من الوسائل، حتى ضبطنا الباب وأخذنا بناصيته، فما الحاجة إلى حفظ عدّة أسطر من المختصرات أو 10 أبيات أو 20 بيتا أو 100 بيت تلخّص مسائلَه! لكن لو بقي منه شيء استعصى على الضبط ولم يُسلمْ لك القياد، ولم يمكن ضبطه إلا بالحفظ فهنا استخرج سهما من جعبة الحفظ وارم الشارد ثمّ شدّ وَثاقه. وهكذا قد لا تحتاج أن تحفظ من الفصل الطويل سوى جملة، أو من الأبيات الكثيرة سوى أقلّ القليل، ولن يبزّك الحافظ الخارق في شيء إلاّ ما أهدر من وقته الثمين. ولْتُعطِ الفهم فسحةً حتى تتبيّنَ أمره، فلا تَقُلْ بعد الاستخراج الأوّل، حيث لم تهتد إلى الجواب الصحيح أو ضلّ عنك أكثره : لا مناص من الحفظ. بل اصبر حتّى تأخذَ المسألةُ حقّها من الاختمار في العقل والتعرّض لمعاول الاستخراج مرّة بعد مرّة، وشباكِ المسائل ذات الصلة، فلعلّها تصير بعد برهة من الزمن كمنقوش على حجر. غير أنّ من العلم ما تتيقّن فورا الحاجة إلى تحصينه بالحفظ حسب ما جرت به العادة، مثل التواريخ وتخريج المرويّات ممّا لا يجدي معه الفهم عادة. ومن هذا الباب القرآن والأشعار، أمّا الأحاديث والآثار ومقالات الناس فالأمر فيها أوسع، لكن يبقى الأصل فيها الحفظ ويُغتفر فيها ما لم يخلّ بالمعنى، على خلاف بين أهل العلم في أداء الحديث النبويّ بمعناه وتفصيلٍ في ذلك.

من هذا الباب أيضا، أنّ ضبطنا للنصّ الواحد قد يتفاوت أحيانا، خاصّة النصوصُ الطويلةُ نسبيا كالقرآن والقصائد. فربما حفظتَ الوجه من القرآن فضبطت بعضه كأحسن ما يكون الضبط وبقي بعضه مستعصيا، وهكذا قد تحفظ القصيدة فتتفاوت درجة ضبطك لأجزائها وأبياتها. والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا، بسبب تباينهم في الاستعداد والملكات والفهم وعوامل أخرى كثيرة تؤثر على مستوى الضبط عندهم. فمثلا قد يضبط بعض الناس الآية إذا كرّرها 10 مرّات، وقد لا يضبطها غيره ولو كرّرها 100 مرّة، وقد يمهَرُ الرجل في الآية بعد 10 تكريرات ولا يمهَرُ في أخرى ولو كرّرها 50 مرّة . مع الوقت يطوّر المتعلّم حاسّة يعرف بها القدر اللاّزم من التكرار لحفظ نصّ ما. لكن يعمد البعض إلى اتباع خطّة مسطّحة في الحفظ، مستهدفا السقف الأعلى الذي يضمن معه ضبط المحفوظ. فإذا كانت أصعب النصوص عنده لا تُحفظ إلاّ بعد أن يكرّرها 100 مرّة، عمّم هذا العدد على كلّ نصّ يريد حفظه، فيكرّره 100 مرة مع أنّ 10 مرات كافية عنده لضبط بعض النصوص أو إجزاء منها. ولا يخفى ما يترتب على هذه الطريقة من الإسراف في الحفظ وضياع الأوقات، لأنّ طارقها يكرّر بعض النصوص عددا يفوق الحاجة. ولتفادي هذا الإسراف يمكن إتّباع إحدى طريقتين :

1- الطريقة الأولى : وهي الأكمل، بأن ينصت المتعلّم لحاسّة الحفظ المتطوّرة عنده، وهي ملكة تمكّنك من تمييز درجة المحفوظ في سلّم (سهل-صعب) في بداية عمليّة الحفظ، وهكذا يمكنك أن تضع خطّة مفصّلة لحفظ كل جزء من النصّ باعتبار موضعه على هذا السلم.

لأضرب لكم مثالا من واقع تجربتي: أردت أن أحفظ عينية أبي ذؤيب الهذلي -رضي الله عنه- التي مطلعها : (أمن المنون وريبها تتوجّع)، وهي من عيون الشعر، وكنت سمعتها عشرات المرات قبل ذلك بالصوت المطرب للشيخ عادل بن حزمان -وفقه الله ونفع به-، حتّى كدت أحفظ مطلعها (15 بيتا) دون أن أتكلف الحفظ، ثمّ اختلف الأمر في أجزائها الثلاثة التالية (مقطع حمر الوحش – مقطع الثور – مقطع الفارسين) فوجدت أنّ كل مقطع أسهل حفظا من الذي يليه. في ذلك الحين اتبعت خطّة مسطّحة للحفظ فكررت كلّ أجزاء القصيدة عددا متساويا (100 مرّة لكلّ بيت تقريبا)، فأجدني الآن أضبط المطلع ضبطا شديدا، وأضبط مقطع حمر الوحش ضبطا جيدا، وأضبط المقطعين الأخيرين ضبطا خفيفا. وحتّى أعالج خفّة الضبط عليّ أن أكرّر المقطعين الأخيرين 50 مرّة (للأسف لم أفعل ذلك بعد). ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لكرّرت المطلع 25 مرّة فقط، ومقطع حمر الوحش 100 مرّة، ومقطع الثور ومقطع الفارسين 150 مرّة، مع ملاحظة أنّ بعض الأبيات في المقاطع الثلاثة قد لا تحتاج هذا العدد من التكريرات لسهولتها. لو فعلت ذلك لوفرت تكرير المطلع 75 مرّة، وربما قلّلت من تكرير بعض الأبيات السهلة، وأنفقت هذا الفارق في ضبط الأحزاء الأقلّ ضبطا، وبذلك أكون استثمرت وقتي وجهدي بطريقة أمثل.

2- الطريقة الثانية : وهي أن تعتمد الحدّ الأدنى الذي يحصل معه مطلق الضبط، ثمّ تولي الأجزاء الأقلّ ضبطا عناية زائدة عند المراجعة. وهكذا شيئا فشيئا تجبر الضعف حتى تستوي أجزاء النصّ المحفوظ في حسن الضبط.

وهاكم مثالا على ذلك من واقع تجربتي : أردت أن أحفظ لامية امرئ القيس التي مطلعها (ألا عم صباحا أيّها الطلل البالي)، فكررت كلّ بيت 50 مرّة تقريبا (وهذا يعتبر عندي الحدّ الأدنى في أغلب الحالات، ويختلف العدد من شخص لآخر)، وحصل عندي بذلك مطلق الضبط. ثمّ مع تقادم العهد والمراجعة، وجدت أنّي أضبط شطر القصيدة الأوّل (30 بيتا تقريبا) ضبطا جيدا، ثمّ يبدأ الضّبط في التّدهور، لذا أخذت أكرّر الأبيات غير المضبوطة جيدا 25 مرّة في كلّ مراجعة. بعض هذه الأبيات صار حسن الضبط وبعضها احتاج إلى مزيد تكرار في المراجعة التالية. فصارت القصيدة كبيت فيه خروق وضعف، فأنت تزيده في كلّ مرة لبنة هنا ودعامة هناك حتّى يغدو صالحا. بهذه الطريقة اقتصدت في الحفظ، فمقارنة بالخطّة المسطحة التي اعتمدتها مع قصيدة أبي ذؤيب وفّرت على الأقلّ تكرار شطر القصيدة 25 مرّة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة