كيف نمارس استخراج العلم؟



الاستخراج هو عملية استدعاء علم ما أو مهارة ما من مستودعها في الذاكرة، وله صور شتى منها المذاكرة والتّعليم والخضوع للاختبار والمناظرة. وهو نشاط مُجهدٌ عقليّا، إذا ما قورن بالقراءة السلبيّة.

في تجربة أجراها مجموعة من العلماء في مدرسة متوسطة في ولاية إلينوي الأمريكية، وامتدت لثلاث ثنائيات (سنة ونصف)، قام الباحثون بتصميم سلسلة من الاختبارات القصيرة لتلقى على طلاب الصفّ السادس، تغطّي ثلث المواد التي يعطيها المعلم تقريبًا. تمّ إجراء اختبار واحد في بداية الدّرس، يغطي واجب القراءة الذي لم تتم مناقشته بعدُ. وتمّ إجراء اختبار ثانٍ في نهاية الدرس بعد أن قام المعلّم بتغطية المواد الخاصّة بدرس اليوم. وتمّ إجراء اختبار مراجعة قبل أربع وعشرين ساعة من كل امتحان. لكن واجهت الباحثين مشكلة تتمثّل في أنّه لو تحسّن أداء التلاميذ الذين تمّ اختبارهم مقارنة بالذين لم يتمّ اختبارهم، فقد يعزى ذلك إلى مجرّد تعرضهم للمعلومات أكثر أثناء الاختبار، وليس للمارستهم للاستخراج. لمواجهة هذا الاحتمال، تخلّلَ الاختباراتِ عرضُ معلومات لا تتطلب إجابات من التلاميذ، والتي تمّ تقديمها في شكل جملة تقريريّة، مثل "يمدّ نهر النيل رافدان رئيسيّان: النيل الأبيض والنيل الأزرق"، دون الحاجة إلى استخراجها. تمّ عمل اختبارات حول الدروس لبعض الفصول، ولكن أعيدت مراجعتها فقط لفصول أخرى. استغرقت الاختبارات بضع دقائق فقط من وقت الفصل الدراسي. عرض أحد العلماء سلسلة من الشرائح على اللوحة في واجهة الغرفة وقرأها على التلاميذ. تحوي كل شريحة إمّا سؤالا ذا اختيارات متعدّدة وإمّا جملة تقريريّة. كانت النتائج مذهلة: سجل التلاميذ درجة كاملة أعلى (أي حوالي 10%) في المواد التي تمّ اختبارهم فيها مقارنة بالمواد التي لم يتمّ اختبارهم فيها. علاوة على ذلك ، لم تكن نتائج اختبار المواد التي تمت مراجعتها كجمل تقريرية (كمثال نهر النيل السابق) أفضل من نتائج المواد غير المراجعة، ما يؤكّد أنّ مجرّد إعادة القراءة لا يساعد في الحفظ والضبط. (1)

يستحبّ أن لا يتم الاستخراج الأوّل بعد قراءة أو سماع المادّة العلميّة مباشرة، لكن بعد برهة من الزمن يصير بعدها أمر التذكّر شاقّا (بعد ساعات مثلا أو يوم). يمكن أن تختبر نفسك بنفسك بإلقاء ما تذكره غيبا، أو بطريقة سؤال-جواب، وأحسن من ذلك مذاكرة الزملاء والأقران، وأحسن منها المناظرة(2)، ثم لتعرض جوابك على الأصل حتى تعرف نسبة الصواب والخطأ في جوابك، وتصحّح ما يحتاج تصحيحا، وتتأمل في ما يحتاج تأملا. ستجد أنّك لا تذكر كثيرا ممّا سمعته أو قرأته أو لا تفهمه، لا تُصب بالإحباط، فهذا خلقُ الله، وفيه حكم وآيات عظيمة لمن تأمّلها. من التفسيرات لهذه الظاهرة أنّ عقولنا تَفرِز المعلومات، فما لا نتكلّف تذكّره (كالأحداث اليوميّة وتفاصيلها الكثيرة في حياتنا) يُطرح من الذاكرة قصيرة المدى سريعا ليفسح المجال لغيره من المعلومات التي نحتاج أن نتعامل معها بشكل فوريّ، لذلك لعلّك لا تذكر ما كان عشاؤك بالأمس. أمّا ما نُكثر استذكاره ومعالجته ونبدي اهتماما بالغا به من العلم والمعرفة، فإنّ العقل يدرك أنّه ممّا ينبغي نقله إلى الذاكرة طويلة المدى للحاجة إليه. فسبحان من خلق فسوّى وقدّر فهدى.

سيتوجّب عليك سدّ الثغرات وملأ الفراغات شيئا فشيئا عن طريق الرجوع إلى الأصل ومعاودة عمليّة الاستخراج. ستلاحظ كيف أنّ بعض المسائل والمفاهيم ليست مضبوطة عندك على النحو الذي تظنّه، مهما بدت لك سهلة وبدهيّة. سنعرِضُ في الشقّ العمليّ لأداة عظيمة النفع في ممارسة الاستخراج -إن شاء الله تعالى-.


(1) من كتاب "Make it Stick”

(2) قال برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله- في كتابه القيّم "تعليمُ المتعلِّم طريقَ التعلُّمِ" : وفائدة المطارحة والمناظرة أقوى من فائدة مجرد التكرار لأن فيه تكراراً وزيادة. وقيل: مطارحة ساعة، خيرٌ من تكرار شهر.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة