أسهم في جعبة الحافظ



أغلبنا لا يملك في جعبته لصيد العلم الشرود سوى سهم أو سهمين، أو بالأحرى لا ينزع إلاّ بها. لكن ما زوّدنا الله به من قوّة على الحفظ أعظم من ذلك بكثير، غير أنّ أكثرنا لم يهتد إلى توظيف تلك الملكة الكامنة، ومن هنا جاء عنوان هذه السلسلة (الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا).

هنالك وسائل وأساليب كثيرة تسهّل علينا تقييد أوابد العلم واقتناص شاردها، يمكن أن نطلق عليها مصطلح "المذكّرات"، ويمكن إدراجها ضمن صنفين رئيسيين : مذكّرات بصريّة ومذكّرات لفظيّة.



المذكّرات اللفظيّة

: وهي أنواع :

1- الأبيات الجامعة : وما في معناها ممّا له وزن ونغم، ولا أظن أحدا يداني المسلمين والعرب في كثرة استعمال هذا النوع، لا سيّما الشناقطة. ولشهرة هذا النوع وشيوعه لا داعي لضرب الأمثال، لكن لزم التنبيه إلى أمر مهمّ، وهو أنّ يتحرّى المتعلّم من الأبيات ما يخلو من الحشو والزيادات التي يغني عنها الفهم حتّى لا يتضخّم محفوظك دون موجب، فالمحفوظ يعطيك إشارات وإلماعات تستدعي بها ما اتصل به من العلم. مثال ذلك هذه الأبيات في آداب الدعاء لحسن توفيق الأزهريّ الشافعيّ:

فأولٌ مُقدَّم المَحلِّ ** إصلاحُ باطنٍ بأكل حِلِّ

كذلك الإخلاصُ بعدما ذُكِرْ** على المعاصي كونُه غيرَ مُصِرّ

عليه بالظلمِ كذا أن يَعترفْ ** فإنه مِن العَطايا يَغترفْ

ثم حضورُ القلب عند الغُمّة ** وأن يعُمَّ بالدعاءِ الأمةْ

له يكون البدءُ للإجابةِ ** وموقنًا كذاك بالإجابةْ

للمنكبين يرفعُ اليدينِ ** لا يَنظرَنْ إلى السما بالعينِ

وخفضُ صوتٍ ثمَّ أن يوقعْه في** وقتٍ فضيلٍ ليكن بمُسْعفِ

تثليثُه، وصدقُ الاضطرارِ ** لا يَقنطَنْ مِن رحمة الغفَّارِ

كذاك لا يستبطئُ الإجابةْ ** لأجل أن يحصِّل الإثابةْ

ثم الخضوعُ والخشوعُ جَمعًا ** كذاك ألا يتكلفْ سجعًا

كذا الصلاةُ للنبيِّ قَبلَهْ ** وبعدَه مُستقبلًا للقِبلةْ

كذا الوضو والغسلُ، وافتتاحُهُ ** بالذِّكر إذ به يُرى نجاحُهُ

بعدَ الفراغ باليدين يَمسحُ ** وجهًا له فاسمعْ لِمَا قد رجحوا



فهذه ثلاثة عشر بيتا، جلّ ما فيها مضغوط في الأبيات الثلاثة التالية :

بتمجيدٍ ابدأ ،صلِّ، ثلِّثْ،تضرّعَنْ**ألحَّ بِسَرّا طاهرا وقتَ نافعِ
ومستقبلا بالحلِّ جاز،ومعربا** دعِ السجع، بالمأثور شرِّك وجامعِ
وأمّنْ، ولا تعجلْ،مع الرَّفع ،وامسحنْ**فهذي شروطٌ في دعاءٍ لطائعِ

فتحرّ أيّها الطالب حفظ هذا النوع من الأبيات المركّزة، ودع المجال للفهم حتّى يملأ الفراغات ويفصّل المجملات.

2- المذكّرات المعتمدة على الحرف الأوّل : ولها صور :

  • لتَحْفظَ مجموعة من الكلمات تأخذ حرفا من أوّل كل كلمة منها وتشكّل منها كلمة أو أكثر. ولا يخفى أن هذا النّوع لا يكون نافعا إلاّ إذا كان المتعلّم عارفا لما يحفظه، ولكن يستعصي عليه حفظه لتشابهه، أو يذكر بعضا وينسى بعضا لكثرته، أو يصعب ضبط ترتيبه. مثلا :

    • جُمعت مفاتيح تدبر القرآن في حملة واحدة هي (لإصلاح ترتج) حيث اللام : للقـ(ـلـ)ـب، والهمزة : للـ(أ)هداف أو الـ(أ)همية، والصاد : للـ(ـصـ)ـلاة، واللام : للـ(ـلـ)ـيل، والهمزة للـ(أ)سبوع، والحاء : للـ(ـحـ)ـفظ، والتاء : للـ(ـتـ)ـكرار، والراء : للـ(ـر)بط، والتاء : للـ(ـتـ)ـرتيل والـ(ـتـ)ـرسل، والجيم : للـ(ـجـ)ـهر. (1)

    • جمعت مقاصد تلاوة القرآن في (ثمّ شع) حيث الثاء : لل(ـثـ)ـواب، والميم : للـ(ـمـ)ناجاة أو الـ(ـمـ)سألة، والشين : للـ(شـ)ـفاء، والعين : للـ(ـعـ)ـلم، والعين : للـ(عـ)ـمل. (1)

    • جُمعت أسماء السور التي كان السلف يحزّبون بها القرآن في (فمي بشوق) حيث الفاء : للـ(ـفـ)ـاتحة، والميم : للـ(ـمـ)ـائدة، والياء : لـ(يـ)ـونس، والباء : لـ(ـبـ)ـني إسرائيل (الإسراء)، والشين : للـ(ـشـ)ـعراء، والواو : لـ(و)الصّافّات، والقاف : لسورة ق

    • وممّا جمعته من هذا الصنف أسماء الخلفاء الأمويّين في (مِيمُ مِعوَلِ سَعْيِهِ وَيَأُمُّ) حيث الميم : لـ(ـمـ)ـعاوية بن أبي سفيان، والياء : ل(ـيـ)ـزيد بن معاوية، والميم : لـ(ـم)ـعاوية بن يزيد، والميم : لـ(ـمـ)ـروان بن الحكم، والعين : لـ(عـ)ـبد الملك بن مروان، و(ول) : للـ(ولـ)ـيد بن عبد الملك، والسين : لـ(سـ)ـليمان بن عبد الملك، والعين لـ(عـ)ـمر بن عبد العزيز، والياء : لـ(يـ)ـزيد بن عبد الملك، والهاء : لـ(ـهـ)ـشام بن عبد الملك، والواو : للـ(و)ـليد بن يزيد، والياء : لـ(يـ)ـزيد بن الوليد، والهمزة : لـ(إ)براهيم بن الوليد، والميم : لـ(ـمـ)ـروان بن محمد

    • وأوائل الخلفاء العباسيّين (عَجَّ عمَّهُ أُمَم)، حيث العين : لأبي الـ(ـعـ)ـباس السفاح، والجيم : لأبي (جـ)ـعفر المنصور، والميم : لــ(مـ)ـحمد المهدي، والميم : لـ(ــمـ)ـوسى الهادي، والهاء : لـ(ـهـ)ـارون الرشيد، والهمزة : للـ(أ)مين، والميم : للـ(ـمـ)ـأمون، والميم: للـ(ـمـ)ـعتصم.

    • مثال آخر :جمعت الأعيان المتوفّين سنة 93 هجريّة في كلمتي (أزْعَجَ خِبٌّ) : حيث الهمزة : لـ(أ)نس بن مالك، والزاي : لـ(ـز)ين العابدين بن علي، والعين : لـ(ـعـ)ـمر بن أبي ربيعة، والجيم : لـ(ـجـ)ـابر بن زيد، والخاء : لـ(ـخـ)ـبيب بن عبد الله بن الزبير، والباء لـ(بـ)ـلال بن أبي الدرداء

    • مثال آخر : جمعت أهم قوانين التعريفات في تاريخ الولايات المتحدة في الكلمة الأعجميّة التالية (AMUSHT) ولا يخفى قربها في النطق من كلمة (أمْشُط) العربية. حيث :

      A : Tariff of Abomination

      M : Morill Tariff

      U : Underwood Law

      SH : Smoot-Hawley Tariff

      T : Trade Agreement Act

    • ومن هذا الصنف عملُ جملة من أوائل الكلمات المراد حفظها أو الحروف المراد حفظها. ومن أمثلته المشهورة جمع أحرف الإخفاء في بيت هو :

      صِف ذا ثَنَا كَم جَادَ شَخصٌ قَد سَمَا — دُم طَيِّباً زِد في تٌقىً ضَع ظَالِما

2- اللوامع : وتعتمد على إشارة موجودة في الكلمة أو النصّ المراد حفظه، أو كلمة قريبة منها، فلا حاجة إلى حفظ كلمة جديدة أو بضع كلمات، كما في النوع السابق، وقد يعتمد هذا النوع على الحرف الأول وقد لا يعتمد عليه. مثلا : مراسيل الحسن ضعيفة عند ابن سيرين والإمام أحمد رحمهم الله، فصنعت لها مذكّرة لا تكاد تُنسى (مراسيل الحسن ليست أحسن)، حيث (أحـ)سن تذكّرني الإمام أحمد، وأحـ(سـن) تذكّرني سيرين. مثال آخر: قال أبو عبيدة: واتّفقوا على أن أشعر المقلّين فى الجاهليّة ثلاثة: المتلمّس، والمسيّب بن علس، وحصين بن الحمام المرّىّ. تأملت فوجدت كلمت (حِمام) تجمع الأحرف الأولى من أسمائهم : الحاء لـ(ـحـ)ـصين، والميم الأولى للـ(ـمـ)ـتلمّس، والثانية للـ(ـمـ)ـسيّب بن علس. فما أسهل تذكرهم هكذا. مثال آخر : اختلط عليّ أسماء أخوال بعض الشعراء : فطرفة بن العبد خاله المتلمّس الضبعي، وزهير بن أبي سلمى خاله بشامة بن الغدير، والأعشى الكبير خاله المسيّب بن علس. فانتبهت إلى أنّ (علس) قريب من (غلس) وكلمة (غلس) تذكرني بالأعشى لأنه لا يرى ليلا. والزهر (زهير) ينبت على حافة الغدير (بشامة بن الغدير). مثال آخر : قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في جامع العلوم والحكم في شرح حديث "الأعمال بالنيّات" : “وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعَمَلَ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ كَانَ بَاطِلًا: طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَغَيْرُهُمْ." أردت أن أحفظ أسماء هؤلاء، وبقيت دهرا لا أقدر على ضبطهم، فالمسائل كثيرة وأسماء هؤلاء الخيار تتكرر، وهذا ما يجعل ضبطها من الـمُضْنيات. ثمّ تأملت فوجدت حديثا نبويّا أورده ابن رجب كدليل على المسألة المذكورة وحفظته، يرويه أبو سعيد بن أبي فضالة -رضي الله عنه-، فربطت أسماء أولئك النفر باسم الصحابيّ، وبيان ذلك أنّ أبا سعيد يذكّرني بسعيد بن المسيب، ثمَ سين (سـ)عيد للحسن البصري، وعين سـ(عـ)يد لعبادة بن الصامت، ودال سعيـ(د) لأبي الدرداء. وهكذا صرتُ أشدَّ ضبطا في عزوّ هذا القول إلى قائليه. مثال آخر : في الحديث: (في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه) أصح الأقوال أنها قبل غروب الشمس. قاله: ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وطاووس. يمكنك تذكّر أسماء هؤلاء الأئمة بكلمة واحدة في نفس الحديث وهي (أعطاه) : فهي تذكّرك عطاء، والعين : لابن (عـ)ـباس، والطاء : لـ(ـطـ)ـاووس، والهاء : لأبي (هـ)ـريرة.



(1) من رسالة (مفاتيح تدبر القرآن) للشيخ خالد اللاحم -حفظه الله-

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة