الباب الأوّل : دعامتا العلم والمعرفة



كلّ العلوم والمعارف ترتكز على أساس من الحفظ والفهم، غير أنّ بعضَها يعتمد على الحفظ أكثرَ من الفهم (كالطب والتاريخ)، وبعضَها يعتمد على الفهم أكثرَ من الحفظ (كالرياضيات والبرمجة)، وبين أقصى الطرفين درجاتٌ متفاوتة جدا. يكمن أحد أبرز التحدّيات في العملية التعليميّة في تحقيق التوازن الصحيح بين الفهم والحفظ. وككلّ أمر يكتنفه طرفان، يفترق النّاس فيه ثلاث طوائف : أهل إفراط وأهل تفريط وأهل قصد.

فيجنحُ أهل التفريط إلى الاعتماد على الحفظِ كوسيلة أساسيّة لضبط العلوم وإتقانِها، حتّى لو كان ذلك العلم يعتمد بقوّة على الفهم والتحليل والاستنباط. ويُعزى ذلك إلى أسباب أهمّها :

- الإحساس القويّ بالضبط والإتقان الذي يمدّه الحفظ لصاحبه.

خشية المُتعلّم من الارتكاز على فهمه بعيدا عن الألفاظ والمصطلحات والتعريفات الخاصة بالعلوم، خاصة في بدايات الطلب.

صعوبة فهم بعض المسائل والفروع يدفع المتعلّم إلى تعطيل ملكة الفهم عنده والاتكال على ملكة الحفظ، طلبا لما تهواه النفس من الدَّعَة والرّاحة.

- نمط شخصيّة المتعلّم.

- التقليد المحض ومجاراة الأقران.

أمّا أهل الإفراط فلا يرفعون بالحفظ رأسا، ويتكلون على الفهم وحده، وحجتهم أنّ الحفظ ليس إلاّ وسيلة للفهم، فإذا تحققت الغاية بأي وسيلة كانت، فلا ضير. وإنّما أُتي هؤلاء من ضعف إدراكهم للعلاقة بين الفهم والحفظ، فإنّ كلاّ منهما يمدّ قرينه ويحوطه. فلا غنى لطلاّب العلوم والمعارف عن حفظ يستمدون وينفقون منه في كلّ حين، وما أجمل أن يكون الطالب والعالم ضابطا مُستوثِقا غير مُجمجمٍ ولا مُرتعش، وما أقبح أنّ تكون سائر بضاعته : لعلّ وربما و"أو كما قال" و"إن لم تخنّي الذاكرة".

أمّا أهل القصد فهم الذين هُدوا إلى حلّ المعادلة الصعبة، فخلطوا بين الفهم والحفظ دون إسراف ولا تقتير. ومن أعظم مقاصد هذه السلسلة أن "نعيّر" ميزان المتعلّم حتّى يسلم من الميل والطغيان.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة